بين خوف وصل حد الذعر وإلتزام بالإجراءات الإحترازية وصل حد التحصن بالمنازل وعدم مغادرتها، تعاملت كل الشعوب التي أصابها فيروس القرن اللعين.. أدرك الجميع حجم الخطر وإمتثل الجميع للتعليمات بيقين إمكانية التغلب عليه يقليل من الإلتزام والإنضباط، حتى لو كان الثمن المدفوع يصيبهم بالخنقة والملل والتذمر من حصار إجبارى في البيوت.. تحملت جميع الشعوب الثمن في صمت ولم تكتف بعضها بالإستسلام للكآبة بل تفننت في كسر حالة الجمود والملل بالانطلاق، بالغناء والتصفيق وبث الحماس بترديد الأغانى الوطنية، وكأن الالتزام بقرار الحجر المنزلى واجب وطنى يدفعه الجميع عن طيب خاطر لإنقاذ الوطن الغالى وأهله.
بدا لفيروس "كورونا" وجهه الآخر الكاشف عن طبائع الشعوب ومميزاتها في التعامل مع الأزمات.. وجه وإن بدا الجمال في معظمه إلا أنه لم يخل من قدر من القبح، عكسته تلك الحالة من التكالب على شراء السلع وتخزينها بشكل بدا همجيا إلى أبعد حد، لايكاد يسلم منه أي شعب تقريبا.. أظهر الخطر حقيقة النفس البشرية مايكمن فيها من أنانية وجشع وإنتهازية وسحق الآخر من أجل المنفعة الشخصية طفت كل هذه الصفات القميئة، ولم تحل سنوات من تحضر ظاهر ورقى وإدعاء بإنسانية مفرطة دون تفجر الهمجية الكامنة، والتي أماط الذعر والفزع القناع عن وجهها الخفى فبدا القبح حقيقيا صادما.
الغريب أننا في مصر لم نأخذ قسطا من الكورونا سوى لعنة وجهه القبيح. فتكالبنا على الشراء وتخطينا كل المشاهد المستنكرة، وأفرغنا كل رفوف المحلات من بضائع وأدراج الصيدليات من كل المعقمات والكمامات والقفازات حتى الكولونيات الرخيصة التي كنا ننبذها ونسخر ممن يستخدمونها ونترفع عن رائحتها بإشمئزاز تكالبنا عليها، فقز سعرها لتخرج بدلال لسانها إنتقاما من سنوات من التنمر بها.
تخوفنا من الكورونا فسحبنا كل ما أسواقنا من معقمات، وعلى النقيض بالغنا في الإستهانة بها فخرج شبابنا للمقاهى وحملت الاسر أطفالها للمولات وخرج الأطفال للعب وإكتظت الشوارع بالمارة.. فى مشهد عبثى متناقض جمع بين التهويل والتهوين في نفس الوقت.
مشهد يدعو للتأمل والتفكير في طبيعة الشخصية المصرية الغريبة والتي يبدو بالفعل أن لاكتالوج لها كما يردد البعض .
هل هو الجهل وقلة الوعى أم تراه الإحساس باليأس أو هو التواكل وإلقاء كل الأزمات والهموم على أعتاب السماء طالبا العون والنجاة متيقنا من الخلاص والإنقاذ.
في ظنى أن مزيجا من كل ما سبق، ساعد في خلق تلك الحالة التي إتسم بها تعامل غالبية المصريين مع وباء كورونا المخيف.
جهل وعدم وعى وعدم إدراك لحجم الخطر، ويأس يدفع حد الكسل وعدم الرغبة في المقاومة، وكأن لسان حالهم لماذا نعبأ بالكورونا وحياتنا ليس بمأمن في غيابه.. تعرضنا للمبيدات المسرطنة ..واللحوم الفاسدة والأسماك المسممة.. تاجر المنتفعون عبر عقود بآلامنا، وحقق الفاسدون ثروات على حساب دمائنا وتواطأ المسؤولون معهم فدفعنا ثمن إفسادهم وخياناتهم من أعمارنا وأحلامنا وصحتنا وأموالنا.. ضاقت الأرض علينا فخرجنا نلتمس الحياة والنجاة بقوارب الموت في رحلة ندرك أنها للنهاية ذهابا بلا عودة.. تفحمت أجسادنا في قطارات صدئة وتفتتت أشلاؤنا بعبارات خردة.. ووهنت صحتنا في مستشفيات سيئة رديئة.
فلماذا تطلبون الآن منا الحذر والحيطة.. هل لأن جهلنا الأن يصيبكم أذاه وقلة وعينا تهددكم بالخطر، وإستهانتنا بالموت تجعلكم أقرب له وأنتم الخائفون دوما على حياتكم، المتمسكون برفاهيتكم حتى النفس الأخير غير مبالين دوما بأنات ومتاعب وصرخات المهمشين.
نتعامل مع الكورونا مثلما تعاملنا مع كل كوارثنا باللامبالاة بالسخرية بالضحكة بالتندر، وأنتم أدرى منا أن وراء تلك المبالاة هم وحزن ووراء السخرية مرارة ووراء الضحكة دموع نحاول أن نخفيها حتى عن أنفسنا.
ربما لا يبدو ذلك مبررا في نظر البعض، لكنه في ظنى أقرب لتفسير تلك الحالة التي تعامل بها المصريون مع خطر الكورونا.. حالة امتزج فيها عدم الوعى باليأس، بقدر لاباس به من التواكل، بيقين أن كل الأمور بيد الله وماكان لك سوف يأتيك، وأن الله هو الحافظ وأن الأعمار بيد الله وأنه لن يصيبنا شيء إلا ماكتب الله لنا.. متجاهلين أن الله أمرنا بالأخذ بالأسباب ورسوله حثنا على أن نعقلها ثم نتوكل على الله ونهانا عن الخروج من الأرض التي يتفشى فيها الطاعون أو الدخول إليها، حتى يمكن حصار المرض والحد من إنتشاره ومواجهته.
نجهل أمور ديننا ولانكترث بأمور دنيانا، تلك هي آفتنا.. نتحمل قدرا من المسؤولية كمواطنين لامفر من الإعتراف بذلك، لكن المسئولية الأكبر يتحملها ولاة أمورنا الذين أوصلونا بسبب عقود من الإهمال والتجهيل والإفقار والقهر إلى ماوصلنا إليه .
ربما يدفعنا وباء القرن لمحاسبة أنفسنا حكاما ومحكومين، والسعى لبداية جديدة نحو حياة أفضل.. مازال الأمل موجودا، فلا يأس مع الحياة ولاحياة مع الكورونا.
--------------------------
بقلم: هالة فؤاد